بينما تتجه أنظار العالم كله إلى لقاء أنابوليس الذي تضاءلت الآمال في توصله إلى صفقة سلام تضع حداً للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، إذا بالأزمة الانتخابية اللبنانية وهي تبلغ ذروتها، ما يهدد بنسف السلام الأهلي الذي ظل قائماً على امتداد الثمانية عشر عاماً الماضية، وباشتعال حرب طائفية جديدة هناك لن تزيد الشرق الأوسط برمته إلا التهاباً واشتعالاً. ليس ثمة جديد في المشكلات التي يواجهها لبنان اليوم، فهي مشكلات تعود في جذورها إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما أنشأ المستعمر الفرنسي دولة لبنان الحالية مقتطعاً إياها من أراضي سوريا الكبرى، وجمع فيها بين المسيحيين والمسلمين السنة والشيعة والدروز. لكن بما أن الطائفة المسيحية المارونية كانت حليفاً لفرنسا، فقد طالب الدستور الذي أقره المستعمر حينئذ، بأن يكون رئيس البلاد من الطائفة المارونية حصراً وإعطائه السلطة الأقوى في لبنان. ووفقاً لنصوص الدستور، يتعين أيضاً أن يكون رئيس الوزراء من المسلمين السنة، بينما يترأس البرلمان أحد المسلمين الشيعة. وهكذا تشكل النظام السياسي للبنان منذ ميلاده على أساس طائفي. وفيما عدا الحرب الأهلية التي استمرت بين عامي 1975 و1989، تمكنت الطوائف اللبنانية من التعايش السلمي وفق توازن هش فيما بينها، وظل هذا النظام السياسي عاملاً بعد أن تأكدت رغبة جميع الطوائف اللبنانية في تفادي تكرار مأساة الحرب الأهلية المروعة. وبما أن ولاية الرئيس الحالي إيميل لحود تبلغ نهايتها اليوم، فقد تتابعت الاجتماعات واللقاءات السرية للقادة السياسيين والطائفيين على امتداد الأسابيع الماضية، على أمل التوصل إلى رئيس بديل يصادق عليه البرلمان. غير أن هذه المساعي أخفقت في تحقيق غايتها حتى الآن. ولعل السبب الرئيسي وراء هذه الأزمة، هو تنامي النفوذ السياسي والعسكري لـ"حزب الله"، بما له من علاقات تحالف مع كل من إيران وسوريا. ومما يفاقم الأزمة أيضاً ضعف الموقف الدبلوماسي للولايات المتحدة الأميركية وعدم قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث اللبنانية الراهنة، وذلك بسبب مساندة واشنطن لإسرائيل في حربها الأخيرة على لبنان، وعدم قيامها بما يجب لوقف التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية أثناء الحرب. ليس ذلك فحسب، بل كان ديفيد ويلش، مساعد وزير الخارجية الأميركية، قد أعلن في الثامن من نوفمبر الجاري أمام الكونجرس، رفض بلاده المسبق لأي رئيس لبناني ينتخب بإجماع سياسي يكون فيه "حزب الله" طرفاً. وقال ويلش إن بلاده تفضل استخدام عضلاتها السياسية والاقتصادية في دعم مرشح رئاسي ترى أنه الأقرب لخدمة مصالحها هناك. وهذا ما يرى فيه اللبنانيون استراتيجية أميركية ترمي إلى دعم أغلبية انتخابية ضعيفة معادية لـ"حزب الله" في الانتخابات القادمة. وبالنتيجة، فقد ارتفعت مؤشرات القلق لدى عامة اللبنانيين من تكرار مأساة الحرب الطائفية، رغم إنكارهم وجود أي مؤشرات على اندلاعها. ورغم القوة العسكرية والسياسية الكبيرة لـ"حزب الله"، إلا أن هناك من يأمل في أن تتوصل القوى السياسية والطائفية الأخرى مع الحزب أخيراً إلى صفقة سياسية تحمي البلاد من الكارثة التي تهددها. لكن ماذا إن لم يحدث ذلك؟ عندها سيرفض "حزب الله" الاعتراف بشرعية أي رئيس يستند إلى أغلبية برلمانية ويعتمد على واشنطن. وعندها ليس مستبعداً أن يلجأ الحزب إلى تشكيل حكومة موازية، ما يعني عملياً تمزيق وحدة لبنان وتمهيد الأجواء لاندلاع حرب أهلية جديدة. وفيما لو انفجر المشهد اللبناني مجدداً، فإن في ذلك ما يجب أن يثير قلق واشنطن، لأن ذلك الحدث سيشكل بعداً إضافياً جديداً لنيران النزاع والاضطراب التي تعصف سلفاً بمنطقة الشرق الأوسط. فتجدد الحرب الطائفية اللبنانية لن يضر بالنزاع السني الشيعي العراقي فحسب، وإنما من شأنه إشعال نار النزاع الإسرائيلي الفلسطيني أيضاً، خاصة في حال فشل لقاء أنابوليس في التوصل إلى أهدافه المرجوة. ميلتون فيورست كاتب أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"